“إمبراطورية” بمليارات الدراهم تنتقم من المغاربة في التفاصيل، في تحول دراماتيكي يكشف عمق الأزمة الاقتصادية وتداعياتها المؤلمة، تشهد أسواق السلع المستعملة في المغرب انفجاراً غير مسبوق، مدفوعة بتآكل القدرة الشرائية للمواطنين بشكل مخيف خلال السنوات الأخيرة.
هذه الظاهرة الصادمة، التي كشفت خيوطها صحيفة “الصباح” المغربية، لم تعد حكراً على الأسر المعوزة أو ذات الدخل المحدود، بل امتدت كالأخطبوط لتشمل شرائح واسعة من المجتمع، بما في ذلك أعداد متزايدة من أسر الطبقة الوسطى التي وجدت نفسها مجبرة على البحث عن “فتات الصفقات” في هذه الأسواق، هرباً من جحيم الأسعار الملتهبة التي تكتوي بها جيوبهم.
وأوضحت جريدة “الصباح” في تحقيقها الصادر يوم الأربعاء الماضي، أن هذه الديناميكية المرعبة التي تجتاح أسواق “البالة” والخردة ليست مجرد ظاهرة مغربية معزولة، بل هي لعنة عالمية فرضتها موجات التضخم العاتية.
ولم تعد هذه الأسواق مجرد ملاذ أخير للفئات الأكثر فقراً، بل تحولت إلى وجهة قسرية للعديد من الأسر متوسطة الدخل التي رأت في السلع المستعملة طوق نجاة بائس لتلبية احتياجاتها الأساسية.
وتتكدس في هذه الأسواق سلع متنوعة بشكل لا يصدق، حتى أن بعضها تحول إلى إمبراطوريات متخصصة في فئات معينة من المنتجات، كالتجهيزات المنزلية المستعملة التي شهدت إقبالاً هستيرياً. وقد سارع العديد من أباطرة هذا القطاع إلى استغلال منصات التواصل الاجتماعي كأدوات لعرض بضائعهم، متمكنين من استقطاب زبائن جدد من مختلف مدن المملكة، الباحثين عن أي شيء يسد رمقهم.
ولا يقتصر سحر هذه الأسواق على الأسعار المنخفضة التي تبدو وكأنها “رحمة” زائفة، بل يمتد ليشمل الباحثين عن سلع نادرة أو تلك التي ابتلعتها متاجر الحداثة، سواء تعلق الأمر بمسامير صدئة، أو قنينات فارغة بأشكال غريبة، أو حتى أجهزة كهربائية محطمة يُبحث في أحشائها عن قطع غيار قديمة.
كما يمكن العثور فيها على أشياء لا تزال تحتفظ ببصيص من الحياة، لكنها اختفت من رفوف الأسواق العصرية. ومن المفارقات العجيبة لأسواق “الفريب” و”الجوطيات” أنها لا تستقطب المشترين اليائسين فقط، بل أصبحت أيضاً قبلة لأفراد سحقتهم الحاجة، فيلجؤون إليها لعرض ممتلكاتهم الشخصية وما تبقى من كرامتهم للبيع، مقابل سيولة مالية عاجلة لا تسمن ولا تغني من جوع.
وتشير المصادر إلى أن هذه الأسواق لم تشهد انتعاشاً قياسياً في السنوات الأخيرة فحسب، بل عرفت أيضاً تطوراً مقلقاً على مستوى نوعية المنتجات وقنوات التسويق، حيث يعتمد تجارها بشكل متزايد على التكنولوجيا الحديثة للترويج لمنتجاتهم.
ومن بين الأنشطة الأكثر تنظيماً في هذه “الإمبراطورية الموازية”، تبرز تجارة الملابس المستعملة (“البالة”) كوحش كاسر، تهيمن عليه شبكات منظمة تحقق أرقام معاملات تقدر بمليارات الدراهم وتوفر آلاف فرص الشغل الهشة. ولا تكاد تخلو مدينة مغربية من سوق مخصص لـ”البالة”، حيث تتكدس أشهر العلامات التجارية العالمية كجثث هامدة تباع بأسعار بخسة، بل إن بعض الزبائن لا يترددون في قطع المسافات بين المدن بحثاً عن “الهمزة” القاتلة.
وبطبيعة الحال، لا يمكن الحديث عن سوق المستعمل دون ذكر “جوطية” درب غلف الأسطورية في الدار البيضاء، التي لا تزال، منذ عقود، معبداً لصيادي الصفقات، خاصة في عالم التكنولوجيا والهواتف الذكية. فإلى جانب المحلات التي تبيع هواتف جديدة بأسعار فلكية، تنتشر أخرى كالفطر، متخصصة في بيع الهواتف المجددة أو المستعملة بأسعار تبدو في المتناول، مما يجذب إليها جيشاً من الزبائن.
ويقدر رقم معاملات “جوطية” درب غلف بمليارات الدراهم، حيث يتجاوز إيجار بعض الأكشاك الصفيحية هناك 5000 درهم شهرياً، مما يعطي لمحة عن حجم الأموال الدائرة في فلك هذه التجارة التي أتقن تجارها فنون التكيف مع أحدث التطورات التكنولوجية، حتى أن بعضهم لجأ إلى متابعة تكوينات لتطوير مهاراتهم في هذه الحرفة التي فرضتها الظروف القاسية.
التعاليق (0)