في تطور دبلوماسي لافت يحمل دلالات عميقة على مستوى الاصطفافات الجيوسياسية في ملف الصحراء المغربية، أحدثت وكالة الأنباء الروسية الرسمية “سبوتنيك” تحوّلاً مفاجئاً في خطابها الإعلامي، حيث وصفت لأول مرة جبهة البوليساريو بـ”الجبهة الانفصالية”، مُعتمدة بذلك لغة الخطاب الدبلوماسي المغربي.
هذه الخطوة، التي يُنظر إليها كمؤشر بالغ الرمزية، تأتي في وقت تشهد فيه الرباط سلسلة من النجاحات الدبلوماسية التي أدت إلى عزلة متنامية للمشروع الانفصالي وداعمته الجزائر. ولم تكتف الوكالة الروسية باستخدام هذا المصطلح غير المسبوق، بل دعّمت تقريرها التحليلي بمضامين تتقاطع إلى حد كبير مع الرؤية المغربية الرسمية، خصوصاً في ما يتعلق بتأمين المعابر الحدودية واختناق البوليساريو ميدانياً.
البوليساريو “مختنقة”… والتقنية المغربية تحسم ميدانياً
ربط التقرير بين تصاعد التوترات الأخيرة في المنطقة والإجراءات الأمنية التي اتخذتها موريتانيا، لا سيما إغلاق منطقة “البريقة” الحدودية، والتي كانت تمثل منفذاً حيوياً لتسلل عناصر البوليساريو نحو المنطقة العازلة. واعتبر الخبير المغربي أحمد نور الدين، في تصريح خص به الوكالة، أن هذا الإجراء “يؤدي إلى خنق الجبهة الانفصالية” ويقطع آخر شرايينها اللوجستية.
وأكد التقرير أن الخيار العسكري لم يعد مطروحاً أمام البوليساريو، بفضل الانتشار المكثف للقوات المسلحة الملكية المغربية واعتمادها على أحدث تكنولوجيا المراقبة، خصوصاً الطائرات بدون طيار، مما جعل أي محاولة اختراق للجدار الأمني المغربي أمراً مستحيلاً. كما أشار إلى أن هذه التحولات دفعت قادة سابقين في البوليساريو إلى العودة إلى الوطن الأم، المغرب، في مشهد يُفقد المشروع الانفصالي أي شرعية سياسية أو ميدانية.
الجزائر في موقف دفاعي… و”سبوتنيك” تفتح نافذة روسية جديدة
ورغم أن “سبوتنيك” خصصت مساحة محدودة للرأي الجزائري، من خلال تصريحات البرلماني علي ربيج، إلا أن سياق التقرير، ومصطلحاته، ومحوره العام، جعل الموقف الجزائري يظهر في موقع المبرّر والدفاعي، في ظل ما وصفه التقرير بـ”حقائق جديدة على الأرض” وتحولات في مواقف بعض القوى الدولية.
وفي تصريح لجريدة “العمق المغربي”, أوضح أحمد نور الدين أن نشر هذا المقال لا يمكن اعتباره مجرد تكرار عرضي، بل هو “إشارة سياسية مدروسة بدقة من الكرملين”، في ضوء ما تعنيه الوكالات الرسمية الروسية من التزام وثيق بالتوجهات الاستراتيجية للدولة.
روسيا تبحث عن حلفاء جدد… والمغرب بوابة إلى العمق الإفريقي
يرى مراقبون أن هذا التحول في خطاب سبوتنيك يأتي في سياق بحث روسيا عن شركاء استراتيجيين جدد، بعد ما فرضته العقوبات الغربية من عزلة خانقة على موسكو. فمع تراجع فعالية تحالفاتها التقليدية في الشرق الأوسط، تبدو المملكة المغربية خياراً براغماتياً ممتازاً بالنظر إلى موقعها الاستراتيجي واستقرارها السياسي.
وأشار نور الدين إلى أن مشروع ميناء الناظور غرب المتوسط يمثل فرصة ذهبية لروسيا لإنشاء مخزون استراتيجي للحبوب والطاقة، يتيح لها تجاوز اختناقات البحر الأسود والحصار المفروض عليها، وهو ما يجعل المغرب أكثر من مجرد شريك اقتصادي، بل منصة لوجستية حيوية وواجهة نحو الأسواق الإفريقية.
منطق القرم يفضح ازدواجية المعايير
في ختام تحليله، ذكّر نور الدين بالمفارقة الحادة التي تواجهها روسيا إذا ما قررت الاستمرار في دعم الطرح الانفصالي، قائلاً:
“إذا كانت موسكو قد برّرت ضمها لشبه جزيرة القرم عام 2014 بالروابط التاريخية، فكيف لها أن تعارض استرجاع المغرب لصحرائه سنة 1975، وهي أراضٍ مغربية أصيلة تم احتلالها خلال الحقبة الاستعمارية؟”
تحول استراتيجي أم بالون اختبار؟
كل المعطيات تشير إلى أن مقال وكالة “سبوتنيك” قد يكون أكثر من مجرد تعديل لغوي، بل بداية تحول استراتيجي في الموقف الروسي من نزاع الصحراء، وهو تحول تمليه ضرورات الجغرافيا السياسية أكثر من حسابات الماضي.
وفي ظل هذا المنعطف، يبدو أن المغرب بات يفرض نفسه كلاعب إقليمي يصعب تجاوزه، فيما تتقلص مساحات المناورة أمام خصوم وحدته الترابية، وتتغير معادلات التأييد الدولي لصالح الطرح المغربي يوماً بعد آخر.
التعاليق (0)