- بقلم: سيداتي بيدا
في زمنٍ باتت فيه الشاشات رفيقة أناملنا في كل لحظة، تراجع حضور الكتاب الورقي إلى الهامش، كعجوزٍ نبيلٍ يراقب صخب العالم من بعيد. ذلك الصديق القديم الذي كان يومًا بوابتنا إلى التأمل والمعرفة، صار اليوم حبيس الرفوف، يعلوه الغبار كغيمة حنين لا تجد من يزيحها.
لم تعد القراءة فعلَ تفرّغٍ وهدوء، بل تحوّلت إلى نقرٍ سريعٍ على شاشة تسرق انتباهنا كما يسرق الضوء البصر في الظلام. في خضم تدفق الصور والفيديوهات، تاهت لحظات الإصغاء العميق، وبهت ذلك الحوار الصامت بين القارئ والنص، بين الفكرة وروح صاحبها.
ومع ذلك، ما زال في الزوايا الخفية من عالمنا، من يقاوم هذا الانجراف، مؤمنين بأن الكتاب ليس رفاهية ثقافية، بل هو ضرورة وجودية. فكل صفحة تُقلب بيدٍ واعية، تُعيد تشكيل وعي، وتزرع فينا القدرة على التفكير والتساؤل، بعيدًا عن سطوة التمرير السريع والتصفح العابر.
إننا نعيش زمنًا تختلط فيه المعلومات بالضجيج، والمعرفة بالسطحية، حتى صار التوقف لقراءة كتابٍ متأنٍ أشبه بتمرّدٍ هادئ على ثقافة العجلة. القراءة ليست هروبًا من الواقع، بل محاولة لاستعادته من بين أصابع الوقت الذي يسلبنا عمقنا الإنساني.
ربما لن يعود الكتاب إلى صدارة المشهد كما كان، لكن بإمكاننا أن نعيد إليه مكانته في حياتنا، لا كحنين إلى ماضٍ جميل، بل كاختيارٍ واعٍ في زمنٍ يزداد تشظّيًا. فأن تفتح كتابًا اليوم، يعني أنك اخترت أن تصغي إلى صوتٍ مختلف، صوت العقل في مواجهة الصخب، وصوت القلب الباحث عن المعنى في عالمٍ مزدحمٍ بالفراغ.
القراءة ليست مجرد فعلٍ ثقافي، بل هي إعلان انحيازٍ للضوء في وجه التشتت، وللتأمل في زمن السرعة. فلنمدّ أيدينا من جديد نحو تلك الصفحات الصامتة التي لم تخذل أحدًا يومًا، علّنا نستعيد عبرها شيئًا من هدوء الفكر ونقاء الروح.

التعاليق (0)