في خضم التحولات الجيوسياسية العميقة التي تعيد رسم خريطة التوازنات العالمية، تبرز الصين بقوة كفاعل اقتصادي محوري يعيد تشكيل تحالفاته، وفي هذا السياق، يفرض المغرب نفسه بثبات كشريك استراتيجي ذي أهمية متزايدة بالنسبة لبكين. هذا التقارب المتسارع بين البلدين يتجسد في ضخ استثمارات صينية ضخمة وغير مسبوقة في قطاعات حيوية وحساسة كالصناعة، والبنى التحتية، والتكنولوجيا المتقدمة، مما يمثل منعطفاً حاسماً في مسيرة تحول النسيج الاقتصادي الوطني المغربي. ويقدم الخبير الاقتصادي المغربي المرموق، الدكتور إدريس العيساوي، في حوار خص به مجلة “شالنج”، قراءة معمقة لدوافع وأبعاد هذه العلاقة الصينية المغربية المتنامية.
ويوضح الدكتور العيساوي أن الاهتمام الصيني المتزايد بالمغرب ليس وليد صدفة أو مجرد خطوة دبلوماسية عابرة، بل يمثل مرحلة استراتيجية فارقة في مسار التحول الصناعي العميق الذي تشهده المملكة. ويندرج هذا الاهتمام، حسب الخبير، ضمن ديناميكية عالمية أوسع، حيث تتبنى الصين منذ سنوات نهجاً اقتصادياً واجتماعياً متفرداً ومؤثراً، سواء على صعيدها المحلي أو في تعاملاتها الدولية المتشعبة.
في المقابل، يتمتع المغرب بموقع جيوسياسي استراتيجي ومستقر، وبمؤهلات قطاعية واقتصادية كبيرة ومتنوعة تجعله وجهة جاذبة للاستثمارات النوعية. ويقول الدكتور العيساوي: “يكفي أن نلقي نظرة على الديناميكية المذهلة التي تشهدها قطاعات حيوية مثل صناعة السيارات، والطيران، والصناعات الدوائية، أو حتى قطاع البنية التحتية المتطور. لقد نجح المغرب بامتياز في تكييف هياكله الاقتصادية والصناعية مع متطلبات العولمة والتنافسية الدولية الشرسة، وهو ما يجذب المستثمرين الصينيين بشكل طبيعي ومنطقي”.
وتنتشر الشركات الصينية حالياً في مختلف أنحاء التراب الوطني، من الدار البيضاء إلى طنجة، مروراً بالرباط وأكادير وغيرها من المدن المغربية الكبرى والصغرى. ويؤكد العيساوي أن “حضور هذه الشركات اليوم يتجاوز بكثير النطاق الاقتصادي البحت، ليمتد أيضاً إلى المجالين الأكاديمي والثقافي، مع تسجيل انفتاح متزايد ومرحب به من الشباب المغربي على الثقافة واللغة الصينية”.
وتُعتبر المشاريع الهيكلية الكبرى دليلاً ملموساً على هذه الديناميكية المتصاعدة، ومن أبرزها مشروع إنشاء مصنع ضخم لبطاريات السيارات الكهربائية، بالإضافة إلى الدعم الصيني الفعال لمشاريع البنية التحتية الكبرى في المملكة. ويشدد العيساوي على أن “هذه الاستثمارات ليست مجرد عمليات إنشاء لمصانع أو وحدات إنتاجية بسيطة، بل هي استثمارات نوعية تُغير قواعد اللعبة الصناعية في المغرب وتعزز من قدراته التنافسية على الساحة العالمية”.
وفي مواجهة إعادة التوطين التدريجي والمستمر لسلاسل القيمة العالمية، يرى الدكتور العيساوي أن المغرب مؤهل أكثر من أي وقت مضى ليصبح قاعدة صناعية هامة وموثوقة للأسواق الأوروبية والأمريكية. وينفي بشكل قاطع أي منطق لما يسمى بـ “الإغراق الاجتماعي”، مؤكداً أن “النموذج المغربي في جذب الاستثمارات لا يقوم إطلاقاً على استغلال اليد العاملة منخفضة التكلفة، بل يتعلق الأمر بتطوير صناعة ذات قيمة مضافة عالية، مدعومة بإطار قانوني وتشريعي مستقر وجذاب، وبشروط استثمار واضحة وشفافة ومحفزة”. وتتعزز هذه المصداقية المغربية، حسب الخبير، من خلال التعاون الصيني المغربي المثمر والناجح في القارة الأفريقية، والتي تعتبر ساحة تجريب نموذجية لشراكة استراتيجية تقوم على مبدأ “رابح-رابح” لكلا الطرفين.
ورداً على تساؤلات مجلة “شالنج” حول مخاطر الوقوع في فخ تبعية اقتصادية تجاه العملاق الصيني، قدم الدكتور العيساوي تطمينات واضحة، قائلاً: “لا يتعلق الأمر بتبعية مفروضة أو سلبية، بل بشراكة استراتيجية يعتبرها العديد من الفاعلين الاقتصاديين الوطنيين والدوليين مرغوبة وضرورية في السياق الحالي. فالصين تستثمر على المدى الطويل، تبني وتجهز وتطور، وهو ما يخدم المصالح المشتركة للبلدين بشكل واضح”. وأكد أن هذه الشراكة تتجاوز البنى التحتية لتشمل أيضاً عمليات نقل حقيقية وفعالة للتكنولوجيا والمعرفة، قائلاً: “هذه ليست مجرد وحدات تجميع بسيطة. فالاستثمارات الصينية يتم التفكير فيها بشكل استباقي ووفق رؤية استراتيجية متكاملة وطموحة”. ويعد قطاع السكك الحديدية المغربي مثالاً بارزاً على ذلك، مع التطور الملحوظ في كفاءات وخبرات المهندسين والتقنيين المغاربة في هذا المجال الحيوي.
وتندرج الشراكة الصينية المغربية المتنامية والمزدهرة في إطار الاستراتيجية الصينية العالمية الجديدة المعروفة بـ”طريق الحرير” (مبادرة الحزام والطريق). ويرى الدكتور العيساوي أن “هذه الاستثمارات الصناعية الصينية النوعية والمدروسة ستترك بصمة تاريخية لا تُمحى في مسيرة التصنيع المتقدم بالمغرب، وستساهم بفعالية في مشروع تنموي كبير وطويل الأمد يهدف إلى تحقيق الرفاهية للشعب المغربي”.
ويخلص التحليل إلى أن المملكة المغربية، دون أن تتنكر لتحالفاتها التاريخية والاستراتيجية الراسخة مع شركائها التقليديين في أوروبا أو الولايات المتحدة الأمريكية، تفرض نفسها اليوم بقوة كشريك استراتيجي لا يمكن الاستغناء عنه بالنسبة للصين في المنطقة. ويمثل هذا التوجه الذكي والمتوازن منعطفاً هيكلياً حاسماً لمستقبل المغرب الصناعي وتطلعاته المشروعة نحو تحقيق نهضة اقتصادية شاملة ومستدامة.
التعاليق (1)
يجب تصحيح كلمة في عنوان المقال : انهالت وليس انهارت ، هذا من جهة ومن جهة أخرى فالصين دولة ذكية جدا ولا تستثمر إلا في المشاريع الناجحة ومن ضمنها المشاريع المغربية